الدين والمجتمع

الوحدة في التّنوع


الاتّحاد ضروريّ لعالم الوجود، والحبّ هو سبب الحياة، جميع الأشياء في عالم المادّة تدين بوجودها إلى الاتّحاد إذ تتماسك عناصرها مع بعضها البعض وتتجاذب بفعل قانون الجاذبيّة وكذلك الحال مع البشريّة فالانجذاب والتّوافق والاتّحاد هي القوى الّتي تجعلها مترابطة ومتماسكة.


الوحدة والاتّحاد في المفهوم البهائيّ تعني "الوحدة والاتّحاد في التّنوّع والتّعدّد" وهو مفهوم يختلف عن التّطابق والتّماثل.  إنَّ الوصول إلى الوحدة لا يأتي عن طريق إزالة الفروقات وإنّما عن طريق الإدراك المتزايد والاحترام للقيمة الجوهريّة للحضارات ولثقافة كلّ فرد.  إنَّ التّنوّع والاختلاف نفسه ليس سببًا في النّزاع والصّراع وإنّما النّظرة غير النّاضجة نحوه وعدم التّسامح والحمية والتّعصّب هي الّتي تسبب الصّراع دائمًا.


شرح حضرة عبد البهاء هذه النّظرة في الفقرة التّالية:  "لاحظوا أزهار الحدائق على الرّغم من اختلاف أنواعها وتفاوت ألوانها واختلاف صورها وأشكالها ولكن لأنَّها تسقى من منبع واحد وتنتعش من هبوب ريح واحد وتترعرع من حرارة وضياء شمس واحدة فإنَّ هذا التّنوع والاختلاف سبب لازدياد جلال وجمال أزهار الحدائق… أمّا إذا كانت أزهار ورياحين الحديقة وأثمارها وأوراقها وأغصانها من نوع ولون واحد ومن تركيب وترتيب واحد فلا معنى ولا حلاوة له، أمّا إذا اختلفت لونًا وورقًا وزهرًا وثمرًا، فإنَّ في ذلك زينة وروعة للحديقة وتكون في غاية اللّطافة والجمال والأناقة.  وكذلك الأمر بالنّسبة لتفاوت وتنوّع أفكار وأشكال وآراء وطبائع وأخلاق العالم الإنسانيّ فإنْ جاءت في ظلّ قوّة واحدة ونفوذ واحد فإنَّها ستبدو في غاية العظمة والجمال والسّمو والكمال.  واليوم لا يستطيع أيّ شيء في الوجود أن يجمع عقول وأفكار وقلوب وأرواح العالم الإنسانيّ تحت ظلّ شجرة واحـدة سوى القوّة الكلّية لكلمة الله المحيطة بحقائق الأشياء".


إنَّ وحدة الجنس البشريّ تعني أيضًا بأنَّ جميع البشر قد منحوا مواهب وقدرات  خلّاقة.  إنَّ الاختلافات الجسمانيّة مثل لون الإنسان أو تركيبة شعره هي أمور ثانويّة وليس لها أيّة علاقة بامتياز أو أفضلية أيّة مجموعة عرقيّة على الأخرى.  التّعاليم البهائيّة ترفض جميع النّظريّات الّتي تقول بوجود أفضليّة عرقيّة لأنَّه ثبت أنَّها نتيجة تصوّر خاطئ وجاهل.  وإنّما الجنس البشريّ مكوّن أساسًا من أصل واحد ولكنّ التّعصّب والجهل وحبّ السّلطة والغرور كان السّبب في منع الكثير من النّاس من معرفة وقبول وحدانيّة هذا الأصل.


اتّفاق الدّين والعلم


من مبادئ الدّين البهائيّ ضرورة توافق الدّين والعلم. بالعلم والدّين تميّز الإنسان على سائر المخلوقات، وفيهما يكمن سرّ نبله وتميّزه عن سائر المخلوقات، ومنهما انبثق النّور الّذي هداه إلى حيث هو اليوم، وما زالا يمدّانه بالرّؤية نحو المستقبل.  العلم والدّين سبيلان للمعرفة، ويكمّل أحدهما الآخر، ويجب أن يكونا على وفاق تامّ، فالحقيقة واحدة وكلّما ظهر نزاع فسببه الخطأ في الفهم لا الحقيقة.  ولعلّ اختلاف الدّين عن العلم ناتج عن فساد أسلوب مِراسنا، لأنّهما وجهان لحقيقة واحدة.


طالما تعاون العلم والدّين في خلق الحضارات وحلّ ما صعُب من معضلات الحياة.  فالدّين هو المصدر الأساسيّ للأخلاق والفضائل وكلّ ما يعين الإنسان في سعيه إلى الكمال الرّوحانيّ، بينما يسمح العلم للإنسان أن يلج أسرار الطّبيعة ويهديه إلى كيفيّة الاستفادة من قوانينها في النّهوض بمقوّمات حياته وتحسين ظروفها.  فبهما معًا تجتمع للإنسان وسائل الرّاحة والرّخاء والرّقي مادّيًّا وروحانيًّا.  وهما للإنسان بمثابة جناحي الطّير، على تعادلهما يتوقّف عروجه إلى العُلى، وعلى توازنهما يقوم اطّراد فلاحه.  إنْ مال الإنسان إلى الدّين دون العلم، سيطرت على فكره الشّعوذة والخرافات، وإن نحا إلى العلم دون الدّين، سيطرت على عقله المادّيّة، وضعف منه الضّمير.  وكما أنّه من غير الممكن للطّائر أن يحلّق في الفضاء بغير جناحين قويّين متكافئين، كذلك لا يمكن للعالم الإنسانيّ العروج والتّسامي نحو الرّقي والكمال إلّا بجناحي الدّين والعلم.  وإن اتّفق وحاول الطّيران والتّحليق بأحدهما واستغنى به عن الآخر فمصيره الفشل والسّقوط لا محالة.  فالدّين الّذي لا يتّفق مع العلم لا يلبث أن تتخلّله الأوهام، والأباطيل، والتّقليد الأعمى.  وكذلك العلم بدون الدّين لابدّ وأن يولّد الشّقاق والنّزاع والحروب.  واختلافهما في الوقت الحاضر هو أحد الأسباب الرّئيسيّة للاضطراب في المجتمع الإنسانيّ، وهو اختلاف مرجعه انطلاق التّفكير العلميّ حرًّا، مع بقاء التّفكير الدّينيّ في أغلال الجمود والتّقليد.


مساواة الرّجل والمرأة


من مبادئ الدّين البهائيّ المساواة في الحقوق والواجبات بين الرّجال والنّساء. لا يوجد أيّ فرق حقيقيّ بين ملكات المرأة الرّوحانيّة وقدراتها الفكريّة والعقليّة، وهما جوهر الإنسان، عمّا أوتي الرّجل منهما.  فالمرأة والرّجل سواء في كثير من الصّفات الإنسانيّة، وقد كان خَلْقُ البشر على صورة ومثال الخالق، لا فرق في ذلك بين امرأة ورجل.  وليس التّماثل الكامل بين الجنسين في وظائفهما العضويّة شرطًا لتكافئهما، طالما أنّ علّة المساواة هي اشتراكهما في الخصائص الجوهريّة، لا الصّفات الظّاهريّة.  إنّ تقديم الرّجل على المرأة في السّابق كان لأسباب اجتماعيّة وظروف بيئيّة لم يعد لهما وجود في الحياة المعاصرة.  ولا دليل على أنّ الله يفرّق بين الرّجل والمرأة من حيث الإخلاص في عبوديّته والامتثال لأوامره؛ فإذا كانا متساويين في ثواب وعقاب الآخرة، فهما يتساويان في الحقوق والواجبات إزاء أمور الدّنيا.


المساواة بين الجنسين هي قانون عامّ من قوانين الوجود، حيث لا يوجد امتياز جوهريّ لجنس على آخر، لا على مستوى الحيوان، ولا على مستوى النّبات.  إنّ عدم اشتراك المرأة في الماضي اشتراكًا متكافئًا مع الرّجل في شئون الحياة، لم يكن أمرًا أملته طبيعتها بقدر ما برّره نقص تعليمها وقلّة مرانها، وأعباء عائلتها، وعزوفها عن النّزال والقتال.  أمّا وقد فُتحت اليوم أبواب التّعليم أمام المرأة، وأتيح لها مجال الخبرة بمساواة مع الرّجل، وتهيّأت الوسائل لإعانتها في رعاية أسرتها، وأضحى السّلام بين الدّول والشّعوب ضرورة تقتضيها المحافظة على المصالح الحيويّة للجنس البشريّ، لم يعد هناك لزوم لإبقاء امتياز الرّجل بعد زوال علّته وانقضاء دواعيه.  إنّ تحقيق المساواة بين عضوي المجتمع البشريّ يتيح الاستفادة التّامة من خصائصهما المتكاملة، ويسرّع بالتّقدم الاجتماعيّ والسّياسيّ، ويضاعف فرص الجنس البشريّ لبلوغ السّعادة والرّفاهيّة.  أوضح حضرة عبد البهاء هذا المبدأ في مؤتمر اجتماع حرّيّة المرأة في لندن في يناير عام 1913:  "إنّ الإنسانيّة كالطائر ذي الجناحين أوّلهما الذّكر والآخر الأنثى وما لم يكن الجناحان قويين تحرّكهما قوّة واحدة فإنّ الطّير لا يقدر أن يطير نحو السّماء.  فتبعًا لروح هذا العصر يجب أن تتقدّم النّساء ليتمّمن رسالتهنّ في الحياة، ولهذا يجب أن يتساوين مع الرّجال.  إنّ أحد تعاليم حضرة بهاء الله المهمّة هو أن تصبح النّساء في مستوى واحد مع الرّجال، وأن يتمتّعنّ بحقوق وامتيازات وفرص مساوية لحقوق الرّجال وفرصهم وامتيازاتهم..." (مترجم)

محو التّعصّبات بأنواعها


التّعصّبات أفكار ومعتقدات نسلّم بصحتها ونتّخذها أساسًا لأحكامنا، مع رفض أيّ دليل يثبت خطأها أو غلوّها. وأكثر ما يعتمد عليه التّعصّب هو التّمسّك بالمألوف وخشية الجديد، لمجرّد أن قبوله يتطلّب تعديلًا في القيم والمعايير الّتي نبني عليها أحكامنا.  فالتّعصّب نوع من الهروب، ورفض لمواجهة الواقع.



بهذا المعنى، التّعصّب أيًّا كان جنسيًّا أو عنصريًّا أو سياسيًّا أو عرقيًّا أو مذهبيًّا، هو شرّ يقوّض أركان الحقّ ويفسد المعرفة، بقدر ما يدعم قوى الظّلم ويزيد سيطرة حرّيّة قوى الجهل.  وبقدر ما للمرء من تعصّب يضيق نطاق تفكيره وتنعدم حرّيّته في الحكم الصّحيح.  ولولا هذه التّعصّبات لما عرف الناس كثيرًا من الحروب والاضطهادات والانقسامات.  ولا زال هذا الدّاء ينخر في هيكل المجتمع الإنسانيّ، ويسبّب الحزازات والأحقاد الّتي تفصم عرى المحبّة والوداد.  إنّ الدّين البهائيّ بإصراره على ضرورة القضاء على التّعصّب، إنّما يحرِّر الإنسان من نقيصة مستحكمة، ويبرز دوره في إحقاق الحقّ وأهمّية تحلّيه بخصال العدل والنّزاهة والإنصاف.



إنّ التّعاليم البهائيّة ترمي إلى محو التّعصّبات كافة لأنها هادمة لبنيان العالم الإنسانيّ وكيانه، جالبة لشقائه وتعاسته وبلائه، ولن تسود الراحة والاطمئنان، ولن يستقرّ الصّلح والسّلام بين الأنام ما لم تنبذ تلك التّعصّبات المهلكة نبذًا تامًّا، ويعامل النّاس بعضهم بعضًا بكلّ المحبّة والعدل والإخاء مؤمنين بمبدأ وحدة البشر، وأن لا فضل لإنسان على إنسان إلّا على قدر عمله وخدمته لعالم الإنسان.  يتفضّل حضرة عبد البهاء:  "إن أردنا الوصول إلى الحقيقة وجب علينا ترك التّعصّبات ونبذ ما لا يسمن ولا يغني.  وهنا تتجلّى الحاجة الملحّة إلى البصيرة النّيرة والعقل السّليم.  فلو كان كأس وجودنا طافحًا بالأغراض الشّخصيّة لن يبقى فيه مجال لماء الحياة، وحينما نظنّ أنّنا على حقّ وإنّ غيرنا على الباطل يصبح اعتقادنا هذا أعظم مانع في سبيل الاتّحاد.  وإذا كنّا نبحث عن الحقيقة، وجب علينا الاتّحاد، لأنّ الاتّحاد هو أسّ الأساس، والسّبب في ذلك هو أنّ الحقيقة واحدة وليست هناك حقيقة تخالف حقيقة أخرى أو تعاكسها." (مترجم)

Share by: